التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رسالة من الله

د. بسام أبو عليان
أستاذ مساعد في قسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
جامعة الأقصى 

صار معي قبل يومين موقفًا أسعدني، وخفف من حالة الإحباط، واليأس، و الاكتئاب، والضغط النفسي التي تسيطر علي؛ بسبب الحرب، وما ترتب عليها من انتشار ثقافة العنف، والبلطجة، والفوضى، والسرقة، والفلتان الأمني، وغياب شبه تام لكل القيم الدينية والإنسانية النبيلة، والأخلاق الحسنة. حتى صرت أشعر كأنني غريب عن هذا المجتمع!.


💥 الموقف:

كنت أمشي في منطقة "العطار" بمواصي خانيونس، مر بجانبي رجل خمسيني، برفقة ابنه، - عمره (17) سنة تقريبًا -. هذا الرجل لا أعرفه، ولا التقيت به من قبل.


رد السلام. رديت عليه.


بدون مقدمات عبر الرجل عن تذمره وسخطه من صعوبة المواصلات، وارتفاع إيجارها، وأخلاق السائقين السيئة في تعاملهم مع الركاب.


قلت: - كنت مجبرًا على المشاركة في الحديث، فأنا منذ بدء الحرب فقدت شهية الحديث، ومقل في الكلام -.

المهم، قلت: في الحرب مجتمعنا تغيرت قيمه، وأخلاقه، وسلوكه، أصبح الناس بحاجة إلى إعادة تأهيل وضبط أخلاقي، وقيمي، وديني.


علق الرجل: مجتمعنا قبل الحرب كان تدينه سطحي، نهتم بمظاهر التدين، مثل: (طول اللحية، وقص الشارب، ومسبحة باليد، ويحافظ على الصلاة في المسجد)، لكن غاب عنه المعاملات الطيبة.


علقت: الدين المعاملة.


انتقل الرجل لموضوع آخر، قائلًا: هي الناس بتروح على مركز توزيع المساعدات، ومنطقة "موراج" لقطع طريق شاحنات الطحين. أنا ما بفكر أروح لهناك، أو أبعث واحد من أولادي.

أكمل قائلًا: تصدق من أول الحرب بفضل الله ما انقطعت من شيء. تعرف ليه؟

قلت: ليه؟


قال: أنا قطع راتبي من 2019، [يعني فقد مصدر رزقه]، رغم هيك كنت أتصدق، بغض النظر عن شو اللي تصدقته، وكم كميته. وعلمت أولادي هذه الصفة.

واصل حديثه: صح راتبي مقطوع، والناس تعاني من الجوع والحرمان في الحرب، إلا أنه ما في يوم نمت جوعان.

أيام ما يكون معي فلوس، أو ما يكون في أكل في الخيمة [هي في مقام البيت في زمن الحرب والنزوح]، لكن إلا يجي من يبعت مبلغ قبل ما تغيب شمس اليوم، أو حد يبعت لي كوبونة. هيني الآن جاي من #النصيرات، صديق أرسل لي آخذ كوبونة خضرة [خضار] من بير19.

مع هذه الجملة كنت وصلت العنوان الذي أريده.


شكرته، وأثنيت على هذه الأخلاق التي يتحلى بها، والقناعات التي يعيش عليها في زمن تجرد فيه كثير من الناس في مجتمعنا من الأخلاق الحسنة، والقيم الإنسانية النبيلة.


طلبت الإذن للافتراق. فسألني: ممكن نتعرف؟ - في العادة من يطلب التعرف أذكر اسمي فقط (بسام) دون ألقاب؛ لأن لدي قناعة أن الإنسان لا يستتر خلف الألقاب إنما يعيش بين الناس بأخلاقه -. لا أدري هذه المرة وبشكل عفوي لما سألني قلت: (د. بسام أبو عليان).

نظر إلي مبتسمًا، وعلى وجهه علامة استفهام، وسأل: أنت في جامعة.... .

بادرته بالإجابة: جامعة الأقصى.


قال مستفهمًا: في قسم علم الاجتماع؟!

قلت: نعم.


👈 - في هذه الحالة ظننت أني درست أحد أولاده أو بناته، وقد مر عليه الاسم - وأنا  أحدث نفسي، قال وفي وجهه إشراقة: د. بسام أبو عليان؟! قبل فترة كنا في قعدة في النصيرات وكان شاب من طلابك، يمدحك، ويثني عليك، ويحكي عنك كلامًا طيبًا. عن حسن أخلاقك ومعاملتك معهم، وثقافتك، وعلمك، وشو استفادوا منك، وكيف حببتهم في التخصص.


ثم قال: يا محاسن القدر أن أشوفك، وأتعرف عليك. ثم عرف عن نفسه،  تصافحنا، بابتسامة متبادلة، وكلمات شكر، ودعاء بالخير.


💥 الذي لفت انتباهي، وأدهشني: ذكر اسمي في مجلس، كأي أسماء أخرى ذكرت في المجلس، وهذه الأسماء تدخل في الذاكرة قصيرة المدى، وسرعان ما تنسى بفض المجلس. إلا أن هذا الرجل علق اسمي في ذهنه، وتذكره بمجرد أن عرفت عن نفسي، ثم ذكر لي تفاصيل حديث الشاب عني.


👈 في هذه الحالة غمرتني حالة سعادة، وكأن الله تعالى أرسل لي هذا الرجل، ووضعه في طريقي، ويدور بيننا هذا الحديث، حتى يقول لي: لازال في الدنيا خير، و الخير الذي تقدمه اليوم ستجني ثمره ولو بعد حين، ورب كلمة تقولها في مجلس لا تلقي لها بالًا فتحدث أثرًا طيبًا في حياة إنسان تنقله من حال سيء إلى حال أفضل.


👈 لقد وصلتني هذه الرسالة وقد كنت في أعلى درجات الإحباط واليأس. لأنني طحنت في هذه الحرب طحنًا، لا مكان لي في هذه الحياة المتوحشة والموحشة. كثير من حقوقي صودرت وانتهكت. الكلمة الآن للبلطجية، واللصوص.


من هم مثلي سحقتهم الحرب سحقًا، وصرنا جوعى، ولم يفصلنا عن مرحلة التسـ.......  إلا خيط رفيع جدًا. وقد أغلقت كل السبل في وجوهنا، وضاقت علينا الدنيا بما رحبت.


لكن الرسالة التي أرسلها الله تعالى إلي بواسطة هذا الرجل الخمسيني الذي لا أعرفه قد أدركت معانيها. 


أخيرًا، أسأل الله تعالى الإخلاص في القول والعمل، وأن يحببنا إلى خلقه، ويحبب خلقه إلينا، وأن يخرجنا من هذه الحرب سالمين آمنين لتعود لنا صحتنا وعافيتنا ونمارس حياتنا ورسالتنا بجد وطاقة متقدة لا تنطفء، ونحن أعزاء كرماء.



تعليقات

  1. ادام الله عليكم السيرة الطيبة الحسنة و اخركم من هذه الحرب سالمين معافين يارب العالمين انت و العائلة الكريمة 😊

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

خدمة الجماعة| مهارة التسجيل لدى أخصائي الجماعة

  د. بسام أبو عليان قسم علم الاجتماع - جامعة الأقصى مهارة التسجيل: تعريف التسجيل: "هو تدوين الحقائق والأحداث كما وقعت؛ للرجوع إليها في المستقبل وقت الحاجة، وللإلمام بالموضوعات المختلفة". أهداف التسجيل: 1-      حفظ المعلومات من النسيان والضياع، ويمكن الرجوع لها وقت الحاجة إليها. 2-   دراسة الفرد في الجماعة كوحدة قائمة بذاتها من حيث نمط الشخصية، ومشكلاته الخاصة، وقدراته، وميوله، ومدى تفاعله مع برامج وأنشطة الجماعة. 3-      تفسير المواقف الاجتماعية المختلفة داخل الجماعة. 4-      إدراك الأخصائي الاجتماعي لذاته، فالتسجيل يساعده على نقد ذاته؛ لتطوير أدائه المهني. 5-      تقييم الخدمات المؤسسية. 6-      المساعدة في تصميم وتقييم برامج المؤسسة. 7-      قياس نمو وتطور الجماعة. 8-      المساعدة في الدراسة والبحث. 9-      تساعد أخصائي الجماعة لتقديم خدمة أفضل إلى الفرد والجماعة. 10-     ...

انثروبولوجيا| علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى

علاقة الأنثروبولوجيا بالعلوم الأخرى على الرغم من الاعتراف بالأنثروبولوجيا كعلم مستقلّ بذاته، يدرس الإنسان من حيث نشأته وتطوّره وثقافته، فما زال علماء الإنسان يختلفون حول تصنيف هذا العلم بين العلوم المختلفة، فيرى بعضهم أنّه من العلوم الاجتماعية، كعلم النفس والاجتماع، ويرى بعضهم أنّه من العلوم التطبيقية كالطب، ويرى بعضهم أنّه من العلوم الإنسانية كالفلسفة. أولاً| علاقة الأنثروبولوجيا بعلم الأحياء (البيولوجيا):   يتناول علم الأحياء دراسة الكائنات الحيّة. فهو يعرّف: "العلم الذي يدرس الإنسان كفرد قائم بذاته، من حيث بنية أعضائه وتطوّرها". يرتبط علم الأحياء بالعلوم الطبيعية، لا سيّما علم وظائف الأعضاء والتشريح. وتدخل في ذلك، نظرية التطوّر التي   تقول بأن أجسام الكائنات الحيّة ووظائف أعضائها، تتغيّر باستمرار ما دامت هذه الكائنات تتكاثر، قد تكون أرقى من الأجيال السابقة، كما عند الإنسان. كما تستند هذه النظرية إلى أنّ الإنسان بدأ كائناً حيّاً بخلية واحدة، تكاثرت   إلى أن انتهى إلى ما هو عليه الآن من التطوّر العقلي والنفسي والاجتماعي. وهذا ما دلّت عليه بقايا عظام الكائن...

الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية (1)| مهارة المقابلة

بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى مهـارة المقابلة تعريف المقابلة المهنية: "لقاء وجاهي مقصود يعقد بين الأخصائي الاجتماعي والعميل أو المشاركين الآخرين في عملية المساعدة بهدف جمع معلومات متعلقة بالمشكلة أو إعطاء معلومات بهدف التأثير على سلوك العميل وتغيير بيئته الاجتماعية، بهدف المساعدة في حل مشكلته أو التخفيف منها". تعد المقابلة أداة مهمة لجمع المعلومات، إذا أحسن الأخصائي الاجتماعي التصرف مع العملاء؛ لأن العملاء يميلون لتقديم معلومات شفهية أفضل من الكتابة. تأتي أهمية المقابلة مع الأميين والأطفال والمسنين أكثر من غيرهم. فإذا كان الأخصائي يتمتع بروح مرحة وقبول اجتماعي، ولباقة في الحديث، وذكاء في طرح الأسئلة فإنه يهيئ جواً ودياً مع العميل. بالتالي يحصل على معلومات مهمة عن المشكلة، وبإمكانه تشجيع العميل على الحديث من خلال الإيماءات وتعبيرات الوجه ولغة الجسد عموماً. عناصر المقابلة: 1)       العلاقة الاجتماعية: لا يمكن عقد المقابلة بدون وجود طرفيها معاً (الأخصائي الاجتماعي، والعميل). هذه العلاقة تحكمها العديد من المعايير المهنية. أدناها...