التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خدمة الفرد| النشأة.. والعلاقة بعلم الاجتماع

د. بسام أبو عليان
أستاذ مساعد بقسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
جامعة الأقصى

تعريف خدمة الفرد:

تعددت تعريفات العلماء لمفهوم خدمة الفرد، نذكر منها على سبيل المثال:

v  ماري ريتشموند: "خدمة الفرد هي فن الوصول إلى التكيف الأفضل في العلاقات الاجتماعية للفرد رجل، أو امرأة، أو طفل".

v    فلورنس هوليس: "عملية تسعى إلى مساعدة الأسرة والأفراد على إيجاد كل من القدرة والفرصة لتحيا حياة راضية".

v    تاول: "خدمة الفرد هي إحدى الطرق المهنية وتقديم خدمات خاصة في النواحي التي يحتاجها العميل لمقابلة حاجياته".

v  هيلين بيرلمان: "خدمة الفرد تمارس في مؤسسات اجتماعية لمساعدة الأفراد على المواجهة الفعالة للمشكلات التي تعوق أدائهم الاجتماعي".

v  عبد الفتاح عثمان: "خدمة الفرد هي طريق مهنية للخدمة الاجتماعية في مساعدة الأفراد سيئي التكيف الذين يقعون في مجالها باستغلال الطاقات الشخصية والبيئية في تصحيح تكيفهم".

يمكننا تعريف خدمة الفرد: "هي إحدى طرق الخدمة الاجتماعية تهتم بالأفراد الذين يعانون من سوء التكيف الاجتماعي؛ بسبب مشكلات تعيق أداء أدوارهم الاجتماعية بشكل طبيعي، فتقدم لهم المساعدات؛ لتعينهم على التكيف الاجتماعي، واستعادة أداء أدوارهم بشكل اعتيادي".

التطور التاريخي لخدمة الفرد:

مرت خدمة الفرد منذ نشأتها حتى الآن في ثلاث مراحل تاريخية، ولكل مرحلة خصائصها. هذه المراحل، هي: (المشاعية، والتمهيدية، والمهنية).

المرحلة الأولى: المشاعية:

بدأت المرحلة المشاعية منذ فجر الإنسانية، واستمرت حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وقد تميزت بالخصائص الآتية:

v  قُدمت المساعدات إلى المحتاجين كهبة، أو صدقة، أو إحسان بدافع فردي، وطوعي، وعشوائي. أي لم تقدم بشكل منظم، لكنها في نفس الوقت قُدمَت بصور مُهينة ومُذِلة لم تحفظ كرامة وإنسانية المحتاج.

v  لم تكن توجد مؤسسات اجتماعية تمارس مهنة الخدمة الاجتماعية، بل قُدمت المساعدات بواسطة بيوت المال، ودور العبادة، وبيوت الإصلاح.

v  لم يكن يوجد أخصائيين اجتماعيين يمارسون مهنة الخدمة الاجتماعية، إنما مارسها متطوعين، يوزعون المساعدات المقدمة من الأثرياء، ورجال الدين، والسحرة، وشيوخ القبائل.

المرحلة الثانية: التمهيدية:

بدأ المرحلة التمهيدية مع صدور قانون الفقر الإنجليزي سنة1601م، المعروف شعبيًا بالقانون الإليزابيثي الفقير، - نسبة إلى الملكة إليزابيث -، واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث لوحظ بعد صدور قانون الفقر زيادة الجهود الإنسانية التي قدمت المساعدات إلى مستحقيها؛ ويعود ذلك لسببين:

v  تنظيم جهود المؤسسات التي توزع الصدقات؛ منعًا لتضارب وازدواجية العمل، أو حصول الفقراء على المساعدات من أكثر من جهة، مقابل حرمان الآخرين.

v    حماية الأغنياء من إلحاح وتطفل الفقراء.

خصائص المرحلة التمهيدية:

v    إصدار تشريعات حكومية تنظم تقديم المساعدات إلى مستحقيها، والابتعاد عن العشوائية والارتجال في العمل.

v  تطبيق التشريعات الدينية المتعلقة بمساعدة المحتاجين، حيث تغيرت النظرة إلى المساعدات، فبعدما كانت تقدم إلى الفقراء كهبة أصبحت حقًا مكفولًا لهم، مثلًا في الإسلام قال تعالى: ﴿وفي أموالهم حق للسائل والمحروم﴾ [الذاريات:19].

v    تغيرت فلسفة العمل الاجتماعي، حيث تحولت إلى العمل مع الأفراد بدلًا من العمل لصالح الأفراد.

v    استحدثت وظائف جديدة في المناطق الفقيرة والنائية، مثل: الممرضة الزائرة، وسيدات الإحسان، والمدرس الزائر.

v    عقد مؤتمرات لمناقشة أحوال الفقراء.

v    طورت أساليب المساعدة بإتباع معايير علمية، مثل: البحث، والدراسة، والتشخيص، والعلاج.

v    ارتفاع الأصوات المطالبة بضرورة تعلم الخدمة الاجتماعية.

المرحلة الثالثة: المهنية:

بدأت المرحلة المهنية في مطلع القرن العشرين ولازالت مستمرة إلى الآن.

خصائص المرحلة المهنية:

v    استمرار تدخل الدولة لتنظيم تقديم المساعدات من خلال سن التشريعات، والإشراف على تنفيذها.

v    تقديم المساعدات بواسطة أخصائيين اجتماعيين عبر مؤسسات متخصصة في مجالات الخدمة الاجتماعية.

v  تطور أساليب تحديد احتياجات المحتاجين، فأصبح التركيز منصبًا على أسباب المشكلة، بدلًا من التركيز على مظاهر المشكلة.

v    الاعتراف بطرق الخدمة الاجتماعية الثلاث، وأصبح للخدمة الاجتماعية مفاهيم، ومبادئ، ومناهج، ونظريات علمية.

v    تخرج الجيل الأول من الأخصائيين الاجتماعيين من جامعة كولومبيا.

v    شكلت نقابات تدافع عن حقوق الأخصائيين الاجتماعيين.

العوامل التي ساهمت في تطور مهنة الخدمة الاجتماعية:

1)   الثورة الصناعية:

رغم الإنجازات الكبيرة والعظيمة الذي حققتها الثورة الصناعية للبشرية، إلا أنه رافقها مشكلات اجتماعية واقتصادية كثيرة، مثل: الهجرة من الريف إلى الحضر، وعمالة الأطفال، وعمالة النساء، وعدم التكيف الأسري، والتفك الأسري، والعشوائيات السكنية، والتسول، والجريمة... إلخ. فقد بينت هذه المشكلات مدى عجز الأنظمة الاجتماعية التقليدية في علاج مشكلات المجتمع، مما تطلب استحداث مهنة تسهم في حلها، هي: "الخدمة الاجتماعية".

2)   الحروب:

كل حرب تخلِّف وراءها أعدادًا كبيرة من القتلى، والجرحى، والمعاقين، والأرامل، والأيتام، والذين يعانون من مشكلات نفسية، وسلوكية، واجتماعية، واقتصادية. مما يعني زيادة نسب الفئات المهمشة والفقيرة في المجتمع، التي هي بحاجة إلى التأهيل النفسي، والاجتماعي، والاقتصادي؛ حتى تتمكن من التكيف مع واقعها الاجتماعي الجديد. هذا الواقع تطلب وجود مهنة جديدة تسهم في دراسة مشكلات وتحديد حاجات تلك الفئات والعمل إشباعها، هذه المهنة هي: "الخدمة الاجتماعية".

3)   انتهاء عصر الإقطاع:

أدت هجرة الفلاحين المتزايدة من الريف إلى الحضر؛ بحثاً عن الرزق، وتحسين مستواهم المعيشي لارتفاع معدلات المشكلات الاجتماعية في المدن، في وقت لم تكن المدن مهيأة لاستقبال أعداد المهاجرين الكبيرة، فأثرت المشكلات سلبًا على المهاجرين وسكان المدن معًا. المهاجرون: لم يستطيعوا التكيف مع بيئة المدينة الغريبة عنهم في الثقافة، والطباع، والأخلاق، والعادات، والتكنولوجيا، والعلاقات الاجتماعية. وأثّرت سلبًا على المدينة فأصبحت تعاني من مشكلات، مثل: السرقة، والنشل، والتسول، والبغاء، وتدني خدمات الرعاية الاجتماعية، وتدني الخدمات الصحية، والاكتظاظ السكاني، والأزمات المرورية، والتلوث البيئي... إلخ. كل هذا ساهم في ظهور مهنة الخدمة الاجتماعية؛ لتساعد في تدعيم العلاقات الاجتماعية، وتحقيق التكيف الاجتماعي لأفراد المجتمع.

4)   فشل التشريعات الغربية في مواجهة مشكلة الفقر:

لم تستطع التشريعات الغربية مواجهة مشكلة الفقر المتفشية في المجتمع منذ صدور قانون الفقر الإنجليزي الأول سنة 1601م، وما تبعه من تشريعات أخرى. هذا الفشل مرده عدم قيام تلك التشريعات على أسس علمية وخطوات منهجية، فقد كانت تحمِّل الفرد مسؤولية فقره، وتبرئ الدولة من ذلك. بمعنى آخر كانت التشريعات الغربية تعالج مشكلة الفقر بشكل سطحي، ولم تلامس الأسباب الحقيقية للمشكلة والعمل على تطويقها. وقد ميز قانون الفقر المشار إليه بين ثلاث فئات من الفقراء، هي:

‌أ.       الفقراء الأصحاء: هؤلاء قادرون على العمل، لذا يلزموا بالعمل في بيوت الإصلاح.

‌ب. الفقراء غير القادرين على العمل: كالمرضى، والمسنين، والمعاقين. هؤلاء يودعون في ملاجئ خاصة بالعجزة. إنْ ثبت أن لأحدهم مكانًا يأوي إليه فإنهم يعالون فيه؛ لأنه أقل تكلفة من الإعالة في الملجأ.

‌ج.  الأيتام واللقطاء: هؤلاء قد تكون أسرهم هَجَرتهم، أو غير قادرة على إعالتهم. هؤلاء يمنحون لأي مواطن يرغب في إعالتهم ورعايتهم دون مقابل.

مع مرور الوقت، تحديدًا في القرن الثامن عشر لقي قانون الفقر معارضة شديدة من قبل دافعي الضرائب، الذين كانت تدفع ضرائبهم لصالح الفقراء، حيث بلغت في الثلث الأخير من القرن المذكور ستة أضعاف ما كانت عليه في بداية القرن. ترتب على ذلك زيادة أعداد الفقراء الذين أصبحوا يشكلون عبئًا ثقيلًا على الدولة. الأمر الذي دفع الدولة إلى تشكيل لجنة مهمتها مراجعة الأساليب التي اتبعت في تطبيق قانون الفقر، وقد استمرت المراجعة مدة عامين. وكان من أهم ما توصلت له اللجنة: "أن قانون الفقر حوَّل الفئات الفقيرة والمحتاجة إلى عالة على الدولة، بدلًا من تشجيعهم على العمل، والاعتماد على أنفسهم". وقد قدمت اللجنة التوصيات الآتية:

‌أ.       إرسال الفقراء القادرين على العمل إلى بيوت التشغيل.

‌ب.  منح المساعدات إلى مستحقيها من الشيوخ، والأرامل، والفقراء، والمحتاجين.

‌ج.    تنسيق المساعدات بين المؤسسات؛ لمنع تكرارها.

‌د.      تكوين مجلس أعلى للرقابة على أداء المؤسسات.

بناءً على تلك التوصيات صدر قانون آخر للفقر سنة 1834م، نص على: "إيداع جميع الفقراء كبارًا وصغارًا، والمرضى، وذوي العاهات في مؤسسة واحدة". فأدى تطبيقه إلى تقليص أعداد الفقراء إلى الثلث. لكن، مما يؤخذ على هذا القانون: أنه جعل مؤسسات الإيداع أقرب إلى السجن منه إلى مؤسسات رعاية اجتماعية.

في المحصلة النهائية: قانون الفقر الثاني لم يكن أحسن حالًا من قانون الفقر الأول، فكلاهما فشلا في علاج مشكلة الفقر، هذا الفشل أدى إلى تحرك المثقفين الذين انتقدوا سياسة مؤسسات الإيداع من خلال إنتاجهم الأدبي، والفكري، والإعلامي، مما دفع الدولة إلى تشكيل لجنة جديدة برئاسة عضو في البرلمان؛ للتعرف على أسباب الفقر، وتقديم مقترحات لتحسين الوضع برمته. فبينت النتائج: أن الأحياء الفقيرة تعاني من سوء التغذية، وسوء الصرف الصحي، وانتشار الأمراض. وقد قدم التقرير للمناقشة في البرلمان. بناءً عليه اتخذت عدة إجراءات إصلاحية على الصعيدين الصحي، والاجتماعي. على الصعيد الصحي: وضع برامج لمكافحة الأمراض والوقاية الصحية كالتطعيم، والتثقيف الصحي، وتحسين وضع المساكن. أما على الصعيد الاجتماعي: وضع برنامج لتوزيع المساعدات على الفقراء تحت إشراف مركزي، وبناء مساكن شعبية للفقراء، وإنشاء مدارس للتعليم.

5)   ظهور الأفكار الاشتراكية:

ساهمت الأفكار الاشتراكية في توجيه الأنظار نحو الأهداف الإنسانية التي طُمِست في غمار التقدم الرأسمالي الذي أكد على النزعة الفردية، وتحقيق الربح المادي بأي وسيلة متاحة، والتأثر بأفكار داروين التطورية التي تقوم على مبدأ البقاء للأصلح والأقوى. فطالبت الأفكار الاشتراكية بضرورة مساندة ومساعدة الفقراء، والمحتاجين، والعمال، وتقديم خدمات لهم من قبل مؤسسات الدولة.

6)   الاختراعات العلمية الحديثة:

ساهمت الاختراعات والاكتشافات العلمية الحديثة في تفسير سلوك الإنسان، ومعرفة الدوافع التي تكمن وراءه، وكيفية مواجهة أنماط السلوك الشاذة.

7)   حركة البحث الاجتماعي:

تأسست حركة البحث الاجتماعي سنة 1886م، التي قادها "تشارلز بوث" أحد رواد المسح الاجتماعي، الذي استعان بفريق من الباحثين؛ بهدف التعرف على جوانب متعددة من حياة أصحاب الحِرَف، مثل: ظروف العمل، وساعات العمل، والأجور. وقد تبين له أن ثلث سكان لندن يعيشون تحت خط الفقر؛ بسبب تدني الأجور.

بشكل عام، ساهمت حركة البحث الاجتماعي في إزاحة الستار عن الحاجة الماسة إلى التعمق في دراسة سلوك الإنسان، وتفسير المشكلات الاجتماعية، حيث أن المشكلات الاجتماعية إن كانت تتشابه في المظاهر، إلا أنها تختلف في الأسباب.

8)   جمعيات تنظيم الإحسان والمحلات الاجتماعية:

تعتبر جمعيات تنظيم الإحسان، والمحلات الاجتماعية عوامل مهدت لظهور مهنة الخدمة الاجتماعية.

‌أ.       حركة تنظيم الإحسان:

قامت حركة تنظيم الإحسان على فلسفة: "الفقير القادر مسؤول عن فقره، والمساعدات التي تقدم للفقراء تفسد أخلاقهم، وتجعلهم متواكلين". هذا القول يعني تبرئة الدولة من مسؤولياتها تجاه الفقراء.

قسمت حركة تنظيم الإحسان لندن إلى مناطق صغيرة، حيث يعمل في كل منطقة فريق من المتطوعين. من أبرز مهامه: دراسة حالات المحتاجين، والإشراف على توزيع المساعدات عليهم، وتوجيههم إلى كيفية التصرف فيها.

‌ب.   المحلات الاجتماعية:

أسست المحلات الاجتماعية سنة 1884م بواسطة قادة الإصلاح الاجتماعي الذين كانوا يدرسون في جامعة أكسفورد، وقد استخدمت أساليب جديدة غير الأساليب التقليدية التي كانت متبعة من قبل في حل مشكلات الفقر، والجهل، والأمية، وهي: الإقامة بين سكان الأحياء الفقيرة، وتجنيد عددًا كبيرًا من طلبة الجامعات في لندن للتطوع في تلك الأحياء. وقد استطاعت المحلات الاجتماعية تأسيس مركزًا جامعيًا باسم "توبيني"، له ثلاثة أهداف رئيسية، هي:

v    تعليم الفقراء، وتحسين مستواهم الثقافي.

v    تزويد طلبة الجامعات بالمعلومات اللازمة عن الفقراء وأحوالهم.

v    استثارة الرأي العام الإنجليزي بالمشكلات الصحية والاجتماعية.

علاقة الخدمة الاجتماعية بعلم الاجتماع:

يوجد ارتباط وثيق ومباشر بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، وقد مرت العلاقة بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في ثلاث مراحل، هي:

المرحلة الأولى| البداية المشتركة:

كان من آثار الثورة الصناعية في إنجلترا ظهور مشكلات اجتماعية جديدة وكثيرة، الأمر الذي ألح بضرورة بذل جهود إصلاحية للحد من هذه المشكلات، كان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. في هذه الفترة تبلورت النواة الأولى للخدمة الاجتماعية من خلال جمعيات تنظيم الإحسان، والمحلات الاجتماعية. فكان بعض قادة المحلات الاجتماعية من علماء الاجتماع الإصلاحيين. بمعنى آخر، جمعت المحلات الاجتماعية بين علماء الاجتماع، والخدمة الاجتماعية؛ بهدف الإصلاح الاجتماعي. يوضح ذلك مدى تأثر الخدمة الاجتماعية بعلم الاجتماع منذ مرحلة التكوين، حتى أول معهد لتدريب الأخصائيين الاجتماعيين أسس سنة 1903م سمي بـ"مدرسة علم الاجتماع".

في أمريكا حدث نفس التقارب بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية كالذي كان موجودًا في إنجلترا، ففي مطلع القرن العشرين انصب اهتمام علماء الاجتماع على قضايا الإصلاح الاجتماعي، خاصة تحسين أحوال المدن وسكانها الفقراء، فشاركوا في تخطيط المدن، وإنشاء المحلات الاجتماعية، وتأسيس الجمعيات الخيرية. وقد اتضحت قوة العلاقة بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية مع تأسيس الجمعية الأمريكية للعلوم الاجتماعية سنة 1865م، واستمرت هذه العلاقة حتى سنة 1906م مع تأسيس الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع كمؤشر على انفصال علم الاجتماع عن حركة الإصلاح الاجتماعي. وقد عبَّر الاتجاه الإصلاحي عن نفسه بتشكيل المؤتمر القومي للإصلاحيات سنة 1876م، الذي أصبح منذ سنة 1918م يعرف بالمؤتمر القومي للخدمة الاجتماعية.

اتضح تأثير علم الاجتماع في الخدمة الاجتماعية من خلال كتابات "ماري ريتشموند" التي عكست اهتمامًا قويًا بالبيئة الاجتماعية، وظروف المصنع، والسكان، وضمان دخل مناسب للفرد، وجعلت تركيزها على الفرد، وتحميلها الدولة مسؤولية فقر الفرد، ولم تحمل الفرد مسؤولية فقره، ففقره يعود إلى خلل في نظم المجتمع.  

المرحلة الثانية| القطيعة:

استمرت العلاقة الوثيقة بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية حتى نهاية عشرينات القرن العشرين، إلا أن هذه العلاقة ضعفت في أمريكا؛ بسبب العوامل الآتية:

1.    كفاح كلًا من علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية للحصول على المكانة:

سعى علماء الاجتماع الأمريكان خلال الفترة بين الحربين العالميتين للحصول على الاعتراف كأحد التخصصات الأكاديمية في الجامعات الأمريكية، لذلك ركزوا جهدهم على الطابع العلمي البحت، والتخلي عما يثير تهمة التمسك بالنواحي العملية والإصلاحية التي كانت سائدة في الفترة السابقة، فاهتموا بمنهجية البحث العلمي، ووضع نظريات اجتماعية عامة، والابتعاد عن اهتمامات الخدمة الاجتماعية العملية. في نفس الفترة تمكنت الخدمة الاجتماعية من بلورة قيمها المهنية، وطرقها، وبدأ الأخصائيون الاجتماعيون يسعون إلى الحصول على الاعتراف بالخدمة الاجتماعية كمهنة مثل المهن الأخرى، ساعدهم على ذلك الكساد الاقتصادي الذي عاشته أمريكا في ثلاثينات القرن العشرين، مما دفع الحكومة إلى التدخل، وتقديم المساعدات المالية من خلال قوانين التأمين الاجتماعي سنة 1935م. أما في إنجلترا لم يفقد علم الاجتماع اهتمامه بالقضايا العلمية والمشكلات الاجتماعية، كما استطاعت الخدمة الاجتماعية المحافظة على توازن علاقتها بعلمي الاجتماع، والنفس.

2.    التأثر بمدرسة التحليل النفسي:

جاءت مدرسة التحليل النفسي إلى أمريكا في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد وجد فيها الأخصائيون الاجتماعيون ضالتهم، فتبنوا مفاهيمها وأساليبها الفنية في الممارسة المهنية، وعزفوا عن علم الاجتماع، ويعود تأثر الخدمة الاجتماعية بمدرسة التحليل النفسي لهذين السببين:

v  أعطت نظرية التحليل النفسي للأخصائيين الاجتماعيين إطارًا معرفيًا متماسكًا يستفيدون منه في عملهم اليومي، أما علم الاجتماع قدم نظريات عامة مجردة ليس لها فائدة تطبيقية مباشرة لهم.

v  ركزت نظرية التحليل النفسي على تغيير شخصية العميل، أما علم الاجتماع يسعى إلى تغيير البناء الاجتماعي، لكنه لم يوضح إجراءات إحداث هذا التغير، كما أن إحداث التغير أقرب إلى اهتمامات رجال السياسة.

المرحلة الثالثة| التقارب الحديث:

سنة1950م أصبح علم الاجتماع أحد العلوم الاجتماعية الأكاديمية المعترف بها في الجامعة الأمريكية، كما حققت الخدمة الاجتماعية تقدمًا كبيرًا للاعتراف بها كمهنة، وهذا مهَّد الظروف لتقوية العلاقة بينهما من جديد.

إن الكساد الاقتصادي الذي تعرضت له أمريكا في ثلاثينات القرن الماضي، والحرب العالمية الثانية وما ترتب عليهما من مشكلات اجتماعية واقتصادية أدى إلى إحداث تقارب جديد بين علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية، من مظاهر هذا التقارب:

v  بينت الدراسات التقويمية عجز أساليب الممارسة المهنية التقليدية في علاج المشكلات، مما زاد من ضرورة إدراك الأخصائيين الاجتماعين لأهمية العوامل الأسرية، والاجتماعية، والاقتصادية في علاج مشكلة العميل، وليس التركيز على مشاعر العميل فقط. من هنا بدأت الخدمة الاجتماعية تستفيد من دراسات علم الاجتماع.

v  زاد اهتمام الخدمة الاجتماعية بعلم الاجتماع من خلال تدريس مساقات علم الاجتماع في كليات وأقسام الخدمة الاجتماعية، لاسيما مع ظهور تخصصات الخدمة الاجتماعية الجديدة: (التنمية الاجتماعية، والتخطيط الاجتماعي، والسياسة الاجتماعية).

v  في فترة الستينات زاد اهتمام أمريكا بإنشاء مشروعات قومية لمواجهة مشكلة الفقر، وقد أعطت هذه البرامج أهمية لمشاركة السكان المحليين في إحداث التغير الاجتماعي، لذلك كان لا بد من وجود نظرية اجتماعية شاملة كمدخل لهذه المشاريع الاجتماعية. هذا الأمر دعا علماء الاجتماع ليعملوا جنبًا إلى جنب مع الأخصائيين الاجتماعيين.

المرجع| بسام محمد أبو عليان، خدمة الفرد، ط2، خانيونس، مكتبة الطالب الجامعي، 2022، ص35-46.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية (1)| مهارة المقابلة

بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى مهـارة المقابلة تعريف المقابلة المهنية: "لقاء وجاهي مقصود يعقد بين الأخصائي الاجتماعي والعميل أو المشاركين الآخرين في عملية المساعدة بهدف جمع معلومات متعلقة بالمشكلة أو إعطاء معلومات بهدف التأثير على سلوك العميل وتغيير بيئته الاجتماعية، بهدف المساعدة في حل مشكلته أو التخفيف منها". تعد المقابلة أداة مهمة لجمع المعلومات، إذا أحسن الأخصائي الاجتماعي التصرف مع العملاء؛ لأن العملاء يميلون لتقديم معلومات شفهية أفضل من الكتابة. تأتي أهمية المقابلة مع الأميين والأطفال والمسنين أكثر من غيرهم. فإذا كان الأخصائي يتمتع بروح مرحة وقبول اجتماعي، ولباقة في الحديث، وذكاء في طرح الأسئلة فإنه يهيئ جواً ودياً مع العميل. بالتالي يحصل على معلومات مهمة عن المشكلة، وبإمكانه تشجيع العميل على الحديث من خلال الإيماءات وتعبيرات الوجه ولغة الجسد عموماً. عناصر المقابلة: 1)       العلاقة الاجتماعية: لا يمكن عقد المقابلة بدون وجود طرفيها معاً (الأخصائي الاجتماعي، والعميل). هذه العلاقة تحكمها العديد من المعايير المهنية. أدناها: (الترحيب بال

علم الاجتماع الحضري| الاتجاهات النظرية الكلاسيكية في علم الاجتماع الحضري

د. بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى الاتجاهات النظالكلاسيكية في علم الاجتماع الحضري: يمكن التمييز بين اتجاهين نظريين كلاسيكيين في علم الاجتماع الحضري درسا المدينة وظاهرة التحضر، هما: الاتجاه المحافظ، والاتجاه الراديكالي. أولًا| الاتجاه المحافظ: |      المبدأ الأساسي الذي يحكم المجتمع، هو: الثبات، والاستقرار، والنظام. |      من علماء الاتجاه المحافظ: ‌أ.         أوجست كونت: اهتم بقانون المراحل الثلاث (اللاهوتية، والميتافيزيقية، والوضعية)، وقارن بين الاستاتيكا والديناميكا الاجتماعية. ‌ب.    إميل دوركايم: اهتم بموضوعات، مثل: تقسيم العمل، والانتحار، والدين، والتضامن الآلي والتضامن العضوي. ‌ج.    ماكس فيبر: اهتم بأنماط السلطة الثلاث: (التقليدية، والكاريزمية، والقانونية)، ودرس موضوعات: البيروقراطية، والرأسمالية، والدين، والفعل الاجتماعي. وربط بين تطور المدينة والتغيرات التي طرأت الثقافة الغربية. ثانيًا| الاتجاه الراديكالي: |      ركز على الصراع الطبقي، وانتقال المجتمعات من مرحلة تاريخية إلى أخرى، وقد جعلها ماركس في خمس مراحل، هي: (المشاعية، والإقطاعية، والرأسمالية، والاش

الخدمة الاجتماعية في مجال الأسرة والطفولة| الخدمة الاجتماعية في مجال الطفولة

د. بسام أبو عليان قسم علم الاجتماع - جامعة الأقصى الخدمة الاجتماعية في مجال الطفولة تعريف الخدمة الاجتماعية في مجال الطفولة: "الممارسة المهنية التي تهتم بتزويد الأطفال بالخدمات الاجتماعية، والمساعدات التي تعمل على حمياتهم، وعلاج المشكلات الاجتماعية، والنفسية، من خلال عمل الأخصائيين الاجتماعيين في عدد من مؤسسات الرعاية الاجتماعية". المؤسسات العاملة في مجال رعاية الطفولة: 1.     مكاتب التوجيه والإرشاد الأسري: تعمل على علاج مشكلات الأسرة، وتهيئة الجو الأسري الذي يعين على تنشئة الأبناء تنشئة سليمة، وتوجيه الأسرة نحو مصادر الخدمات الاجتماعية، ومعاونة قضاة محاكم الأحوال الشخصية في البحث عن أسباب المشكلة الأسرية، والقيام بدراسات تتعلق بمشكلات الأسرة. 2.     مكاتب فحص الراغبين في الزواج: تعمل على فحص الأمراض الشائعة في المجتمع، والأمراض العقلية والنفسية، والأمراض التناسلية. 3.     مشروع الأسر المنتجة: يوفر العمل للأسر القادرة عليه، مما يسهم في القضاء على بطالة الأسرة، ويزيد من دخلها، وتحويل أفراد الأسرة من مستهلكين إلى منتجين، والاستفادة من الخدمات البيئية وتحويلها إلى من