التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مناهج البحث الاجتماعي| مشكلة البحث ج1

 

د. بسام أبو عليان
أستاذ مساعد بقسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
جامعة الأقصى

تحديد المجال المعرفي:

أول خطوة يقوم بها الباحث على طريق البحث العلمي هي: تحديد المجال المعرفي الذي سيختار منه مشكلة البحث. هذه الخطوة تسبق اختيار مشكلة البحث؛ لأن العلوم الاجتماعية متعددة المجالات. لذا، من المهم جدًا أن يختار الباحث موضوع بحثه في مجال تخصصه، فطالب علم الاجتماع يختار موضوعه في علم الاجتماع، وطالب الخدمة الاجتماعية يختار موضوعه في الخدمة الاجتماعية، وطالب علم النفس يختار موضوعه في علم النفس، وهكذا.

لو أن متخصصًا في علم الاجتماع أراد إجراء بحث، عليه أولًا تحديد أحد فروع علم الاجتماع الذي سيبحث فيه، هل سيبحث في علم الاجتماع الأسري، أو علم الاجتماع السياسي، أو علم الاجتماع الريفي، أو علم الاجتماع الحضري، أو علم الاجتماع الديني، أو علم الاجتماع السكاني، أو علم الاجتماع الاقتصادي... إلخ؛ لأن ذلك سيوفر عليه الجهد، والوقت، ويسهّل عملية البحث؛ لأن الباحث سيكون ملمًا بالمحاور الأساسية للموضوع.

اختيار مشكلة البحث:

تحديد مشكلة البحث لا تقل أهمية عن إيجاد حل لها، يقول ديوي: "بتحديد المشكلة تسهل بقية الإجراءات المنهجية؛ لأنه من خلال تحديد المشكلة تحدد المفاهيم، وتصاغ الفروض". ويقول آخر: "تحديد مشكلة البحث تمثل (50%) من عملية البحث".

بعد أن يحدد الباحث المجال المعرفي ينتقل إلى الخطوة الثانية، هي: "اختيار مشكلة البحث"، لكن يوجد مطبان يتعثر فيهما أغلب الباحثين المبتدئين، هما:

(1) الخلط بين مفهومي (مشكلة البحث، والمشكلة الاجتماعية)، رغم الاختلاف الواضح بينهما.

v  المشكلة الاجتماعية: "موقف مُشكَل يحدث نتيجة ظروف مجتمعية بحاجة إلى معالجة وإصلاح". مثال: الطلاق، التسول، الهجرة، العشوائيات... إلخ.

v  مشكلة البحث: "موقف يكتنفه الغموض ليس له تفسير واضح بحاجة إلى تفسير، أو سؤال بحاجة إلى إجابة". مثال: ما هي أسباب ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمع الفلسطيني؟

(2) الاعتقاد بسهولة اختيار مشكلة البحث: حيث يعتقد الباحث المبتدئ أن أي مشكلة اجتماعية تصلح للبحث. هذا الاعتقاد الخاطئ، - إن جاز التعبير -، يوقعه في مأزق عندما يتعمق في عملية البحث، فتواجهه صعوبات، مثل: قلة المصادر والمراجع*، أو تقلص الدعم المالي، أو كبر الموضوع وعدم الإحاطة بكل أجزائه... إلخ. قد يصل إلى طريق مسدود، فيضطر إلى تغيير الموضوع، وهذا يعني استنزاف المزيد من وقته، وجهده، وماله.

قد يكون لدى الباحث المبتدئ تصورًا لامعًا حول البحث العلمي، وقد يكون مندفعًا تجاهه بحماس كبير ورغبة شديدة، فيختار عناوين براقة، وجذابة، وفضفاضة تصلح أن تكون عناوين للوحات إعلانية أو واجهات محلات تجارية، يعتقد أن بمقدوره الإلمام بكافة جوانب المشكلة. الباحث في هذه الحالة يشبه الطفل في تسرعه واندفاعه، إذ يفترض أن يكون صاحب رؤية عميقة، وتفكير رصين؛ لأن نجاحه أو فشله البحثي متوقف على توفيقه أو عدم توفيقه في اختيار مشكلة البحث، لذا يجب ألا يتعجل في الاختيار. لتلافي هذا المأزق يجب أن يقوم بمسح للكتب، والمقالات، والدراسات السابقة التي تناولت الموضوع، فمن خلال القراءة والمناقشة يتكون لديه تصورًا وافيًا عن مشكلة البحث، وتنبهه إلى نقاط قد غفل عنها أو لم يعطها الاهتمام الكافي، وقد يجد أبحاثًا تناولت نفس الموضوع.

المشكلات الاجتماعية التي تصلح للبحث:

يجد الباحث المبتدئ صعوبة في اختيار مشكلات اجتماعية تصلح للبحث العلمي، هذا راجع لاعتقاده أن البحث مجرد جمع معلومات من هنا وهناك، ووضعها في قالب على هيئة مقال. هذا الاعتقاد ينطبق على الدراسة النظرية، ولا يصلح للدراسات التطبيقية. لتيسير الأمر سنتحدث عن المعايير التي تبين مدى صلاحية إخضاع المشكلة للبحث:

1.    لا يجاب عليها بـ(نعم أو لا):

الإجابة على سؤال مشكلة البحث بـ(نعم أو لا) لا يفسح المجال لدراسة المشكلة، ومعرفة أسبابها. مثال: هل الإجازة الصيفية مفيدة؟. هذا السؤال لا يصلح للبحث؛ لأنه تجاهل صلب الموضوع، فهو بحاجة إلى إعادة صياغة، كأن تسأل: ما هي الأعمال المفيدة التي يمكن إنجازها في الإجازة الصيفية؟، أو كيف يمكن استثمار الإجازة الصيفية في الأعمال المفيدة؟. هذا السؤال يستثير العقل للبحث عن الأنشطة المفيدة التي يمكن إنجازها خلال الإجازة الصيفية.

مثال آخر: هل يُعتبر الزواج المبكر مشكلة اجتماعية؟. هذا السؤال لا يصلح للبحث؛ لأنه لا يعطي الباحث مجالًا للتعرف على أسباب الزواج المبكر، وآثاره. يمكن صياغته بطريقة أخرى: ما هي أسباب الزواج المبكر؟، ما هي الآثار المترتبة على الزواج المبكر؟، ما هي الطرق المقترحة للحد من الزواج المبكر؟.

2.    الاعتماد على المقارنة وحدها لا يصلح للبحث:

المقارنة عملية بسيطة يمكن لأي شخص عقد مقارنة بين شيئين؛ ليوضح أوجه الشبه والاختلاف بينهما. المقارنة بهذه الطريقة تصبح قوالب جامدة؛ لأنها بحاجة إلى تفسير لبيان سبب وصول الظاهرة إلى هذا الحد. مثال: مقارنة معدلات البطالة في فلسطين في الفترة (1990-1999م)، والفترة (2000-2009م). في هذه الحالة ستوضع قائمتين توضحان معدلات البطالة. الأولى: توضح معدلات البطالة في الفترة (1990-1999م)، والثانية: توضح معدلات البطالة في الفترة (2000-2009م)، ثم مقارنتهما. إن توقفت المقارنة عند هذا الحد، تعتبر مقارنة سطحية. لابد للباحث أن يبحث عما وراء هذه النسب؛ ليعرف إن ارتفعت أو انخفضت، وما أسباب ذلك؟، وما هي المشكلات المترتبة على ارتفاعها؟.

3.    شعور الباحث بأهمية مشكلة البحث:

استشعار الباحث بأهمية مشكلة البحث يجعله يتفاعل مع البحث بجوارحه وعقله، ويأخذ حيزًا كبيرًا من وقته، وجهده، وتفكيره، ومناقشاته، ويدفعه للاستمرار دون كلل أو ملل، فإن لم يستشعر بأهمية البحث سيفتر وربما يتوقف، وإن أنجزه لا يأتي بجديد، كأنه يقوم بعمل مكره عليه، فيريد إنجازه؛ ليتخلص منه.

4.    شعور الباحث بأهمية البحث بالنسبة لمجتمعه:

حتى يشعر الباحث بأهمية بحثه بالنسبة إلى مجتمعه، عليه أن يسأل نفسه: هل يعالج البحث مشكلة موجودة في المجتمع؟، ما مدى انتشار هذه المشكلة؟، هل البحث يخدم المجتمع عمومًا، أو شريحة اجتماعية معينة، أو قطاعًا اجتماعيًا محددًا؟، هل جاء إجراء البحث في الوقت المناسب؟.

5.    شعور الباحث بأهمية البحث بالنسبة لتخصصه العلمي:

حتى يشعر الباحث بأهمية بحثه والفائدة التي ستعود على تخصصه العلمي، عليه أن يسأل نفسه: هل يسعى البحث لسد ثغرة في موضوع ما؟، هل يتناول موضوعًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد؟، هل يتناول موضوعًا قديمًا بصورة جديدة؟.

أخطاء يقع فيها الباحث عند اختيار مشكلة البحث:

1.    اختيار موضوع تقليدي قتل بحثًا:

من الأخطاء التي قد يقع فيها الباحث عند اختيار مشكلة البحث الاندفاع نحو موضوع محدد، والانغلاق عليه، ولا يعطي نفسه فرصة لاختيار موضوعات جديدة، أو مشكلة لم تأخذ حقها في البحث، فيختار موضوعًا مستهلكًا قد قتل بحثًا، بالتالي لم يأتِ بجديد للمعرفة العلمية، وهو تكرار لما كتب من قبل.

2.    اختيار مشكلة بحث من خارج التخصص:

إذا لم يكن الباحث مدركًا لمجالات البحث التي تقع في إطار تخصصه قد يختار موضوعًا من خارج حدود تخصصه، في هذه الحالة يضيع وقته وجهده دون فائدة. مثلًا: باحث في علم الاجتماع يختار موضوعًا في مجال علمي آخر كعلم النفس، أو السياسة، أو الاقتصاد، أو التاريخ، أو الجغرافيا، أو الإدارة... إلخ. مثل هذه المجالات لا يبدع فيها، وقد ينقطع عن البحث؛ لعجزه عن المواصلة؛ لأنها خارج تخصصه، ولم يؤسس فيها جيدًا.

3.    اختيار موضوع لا يمثل مشكلة بحثية:

يعتقد الباحث المبتدئ أن كل موضوع يصلح للبحث. فهناك موضوعات لا تصلح للبحث. لذلك، هو بحاجة إلى مزيد من القراءة، والإطلاع؛ ليكوِّن تصورًا شاملًا عن الموضوع، ويحيط بكافة جوانبه.

4.    اختيار مشكلة ذات طابع شخصي:

قد يختار الباحث مشكلة مستوحاة من ظروفه الخاصة والشخصية، فيتحمس لدراستها، لكن نتائج هذا البحث لا تصلح للتعميم وتكون محدودة جدًا؛ لأنها لا تشكل مشكلة أو ظاهرة عامة في المجتمع.

5.    إجبار الباحث على موضوع غير مقتنع به:

قد يختار الباحث موضوعًا لا يحبه، أو غير مقتنع به، أو لا يقع ضمن اهتماماته، أو يجبر عليه بضغط من المشرف أو المؤسسة التي يعمل فيها، في هذه الحالة يفقد الباحث دافعية البحث، ويسخِّر جهده لإنجاز وظيفية يريد التخلص منها فقط، بالتالي تكون نتائج العمل دون المستوى المطلوب.

6.    اختيار مشكلة أكبر من قدرات وإمكانيات الباحث:

قلة خبرة الباحث أو حماسه قد يدفعانه لاختيار مشكلة تصلح للبحث، لكنها تحتاج لإمكانيات مادية وبشرية أكبر من إمكانياته، قد تتطلب فريق بحثي كامل، أو وقت طويل، أو سفر، أو ترجمة كتب ووثائق من لغات أخرى، أو معدات معينة. في هذه الحالة يصاب الباحث باليأس والإحباط فينقطع عن البحث، وقد يستغرق البحث وقتًا أطول مما قدر له، وقد يغير موضوع بحثه كلية.



* تطلق المصادر على كل مُؤلَف قديم، أما المراجع تطلق على كل مُؤلَف جديد.

المرجع| بسام محمد أبو عليان، مناهج البحث في علم الاجتماع، ط3، خانيونس، مكتبة الطالب الجامعي، 2022، ص27-32.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية (1)| مهارة المقابلة

بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى مهـارة المقابلة تعريف المقابلة المهنية: "لقاء وجاهي مقصود يعقد بين الأخصائي الاجتماعي والعميل أو المشاركين الآخرين في عملية المساعدة بهدف جمع معلومات متعلقة بالمشكلة أو إعطاء معلومات بهدف التأثير على سلوك العميل وتغيير بيئته الاجتماعية، بهدف المساعدة في حل مشكلته أو التخفيف منها". تعد المقابلة أداة مهمة لجمع المعلومات، إذا أحسن الأخصائي الاجتماعي التصرف مع العملاء؛ لأن العملاء يميلون لتقديم معلومات شفهية أفضل من الكتابة. تأتي أهمية المقابلة مع الأميين والأطفال والمسنين أكثر من غيرهم. فإذا كان الأخصائي يتمتع بروح مرحة وقبول اجتماعي، ولباقة في الحديث، وذكاء في طرح الأسئلة فإنه يهيئ جواً ودياً مع العميل. بالتالي يحصل على معلومات مهمة عن المشكلة، وبإمكانه تشجيع العميل على الحديث من خلال الإيماءات وتعبيرات الوجه ولغة الجسد عموماً. عناصر المقابلة: 1)       العلاقة الاجتماعية: لا يمكن عقد المقابلة بدون وجود طرفيها معاً (الأخصائي الاجتماعي، والعميل). هذه العلاقة تحكمها العديد من المعايير المهنية. أدناها: (الترحيب بال

علم الاجتماع الحضري| الاتجاهات النظرية الكلاسيكية في علم الاجتماع الحضري

د. بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى الاتجاهات النظالكلاسيكية في علم الاجتماع الحضري: يمكن التمييز بين اتجاهين نظريين كلاسيكيين في علم الاجتماع الحضري درسا المدينة وظاهرة التحضر، هما: الاتجاه المحافظ، والاتجاه الراديكالي. أولًا| الاتجاه المحافظ: |      المبدأ الأساسي الذي يحكم المجتمع، هو: الثبات، والاستقرار، والنظام. |      من علماء الاتجاه المحافظ: ‌أ.         أوجست كونت: اهتم بقانون المراحل الثلاث (اللاهوتية، والميتافيزيقية، والوضعية)، وقارن بين الاستاتيكا والديناميكا الاجتماعية. ‌ب.    إميل دوركايم: اهتم بموضوعات، مثل: تقسيم العمل، والانتحار، والدين، والتضامن الآلي والتضامن العضوي. ‌ج.    ماكس فيبر: اهتم بأنماط السلطة الثلاث: (التقليدية، والكاريزمية، والقانونية)، ودرس موضوعات: البيروقراطية، والرأسمالية، والدين، والفعل الاجتماعي. وربط بين تطور المدينة والتغيرات التي طرأت الثقافة الغربية. ثانيًا| الاتجاه الراديكالي: |      ركز على الصراع الطبقي، وانتقال المجتمعات من مرحلة تاريخية إلى أخرى، وقد جعلها ماركس في خمس مراحل، هي: (المشاعية، والإقطاعية، والرأسمالية، والاش

الخدمة الاجتماعية في مجال الأسرة والطفولة| الخدمة الاجتماعية في مجال الطفولة

د. بسام أبو عليان قسم علم الاجتماع - جامعة الأقصى الخدمة الاجتماعية في مجال الطفولة تعريف الخدمة الاجتماعية في مجال الطفولة: "الممارسة المهنية التي تهتم بتزويد الأطفال بالخدمات الاجتماعية، والمساعدات التي تعمل على حمياتهم، وعلاج المشكلات الاجتماعية، والنفسية، من خلال عمل الأخصائيين الاجتماعيين في عدد من مؤسسات الرعاية الاجتماعية". المؤسسات العاملة في مجال رعاية الطفولة: 1.     مكاتب التوجيه والإرشاد الأسري: تعمل على علاج مشكلات الأسرة، وتهيئة الجو الأسري الذي يعين على تنشئة الأبناء تنشئة سليمة، وتوجيه الأسرة نحو مصادر الخدمات الاجتماعية، ومعاونة قضاة محاكم الأحوال الشخصية في البحث عن أسباب المشكلة الأسرية، والقيام بدراسات تتعلق بمشكلات الأسرة. 2.     مكاتب فحص الراغبين في الزواج: تعمل على فحص الأمراض الشائعة في المجتمع، والأمراض العقلية والنفسية، والأمراض التناسلية. 3.     مشروع الأسر المنتجة: يوفر العمل للأسر القادرة عليه، مما يسهم في القضاء على بطالة الأسرة، ويزيد من دخلها، وتحويل أفراد الأسرة من مستهلكين إلى منتجين، والاستفادة من الخدمات البيئية وتحويلها إلى من