تعتبر
الجريمة ظاهرة اجتماعية قديمة قِدَم المجتمعات الإنسانية، ارتبط
وجودها بوجود الإنسان على الأرض، فكانت أول جريمة (قتل) ارتكبت في تاريخ الإنسانية
حينما أقدم "قابيل" على قتل أخيه "هابيل"، وقد سطّر القرآن
الكريم هذه الحادثة.
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ
فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ
لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ* فَبَعَثَ
اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ
أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ
فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ* مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:27-32].
قبلها سجل القرآن الكريم
تعجب الملائكة الكرام عندما أخبرهم الله تعالى بأنه سيجعل الإنسان خليفة له في
الأرض. سبب التعجب الملائكي ما نسب لسكان الأرض قبل الإنس (الجن) من الإفساد،
والعنف، وسفك الدماء. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
القرآن الكريم أورد نموذجًا
ثالثًا، وهو ما حدث مع يوسف u وتآمر
أخوته عليه، الذين أضمروا النية لقتله والتخلص منه؛ حتى يصفو لهم الجو وتخلو
الطريق أمامهم؛ لينالوا نفس درجة التقرب والحب من أبيهم كالتي حظي بها، ثم عدلوا
عن نية القتل وقرروا إلقائه في البئر. قال تعالى: {قَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ
وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ* إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ
إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ*
اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ
وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ* قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ
تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:7-10].
نخلص
مما سبق، أن الجريمة توجد حيث توجد المجتمعات الإنسانية. وجود المجتمعات يعني وجود
أفراد برغباتهم، وأهدافهم، وطموحاتهم، وحاجاتهم المختلفة التي تلتقي وتتشابه حينًا وتتعارض وتتباين أحيانًا كثيرة، الأمر الذي جعل البعض يرى في العنف والجريمة والاعتداء على حقوق الآخرين طريقة مناسبة لتحقيق أهدافهم وإشباع حاجاتهم.
تحظى الجريمة باهتمام كبير من قبل الحكومات،
والمؤسسات، والعلماء، وعامة الناس، لاسيما في الوقت المعاصر الذي تتفشى فيه
الجريمة في كل مظهر من مظاهر حياتنا، وتخترق كل نظم المجتمع (السياسي، والاقتصادي،
والصحي، والتعليمي، والأخلاقي، والديني، والزراعي، والصناعي). لم تعد تحمل الجريمة
صبغة محلية فقط، بل أصبح لها صفة العالمية أو ما اصطلح عليه "عولمة
الجريمة". وقد تعددت وتطورت أساليب وأشكال الجريمة مقارنة مع ما كانت عليه في
الماضي، إذ يعتمد المجرمون في إجرامهم على الوسائل التكنولوجية والتقنية الحديثة
المتاحة، وتطويعها للاستفادة منها في أفعالهم الإجرامية. في المقابل ظهرت العديد من الجهود
الفكرية والنظريات العلمية التي حاولت تفسير سلوك الجريمة وإبراز دوافعه، وتوضيح صوره،
وبيان نتائجه. فعلماء النفس درسوا الجريمة من ناحية نفسية بحتة، باعتبارها سلوك
عدواني له دوافعه النفسية "الغريزية أو المكتسبة". علماء الاجتماع درسوا
الجريمة من ناحية اجتماعية باعتبارها ظاهرة سلبية تؤثر وتتأثر بالنظم الاجتماعية،
وليست ظاهرة فردية تحركها دوافع داخلية فقط. بذلك خالفوا المدرسة النفسية. وركزت
الدراسات الاجتماعية على العوامل: (الأسرية، والثقافية، والإعلامية، والاقتصادية،
والتعليمية، والطبقة الاجتماعية، والجنس) التي تساعد في تنمية الجريمة، إضافة إلى
كشف العلاقة بين الجريمة والمتغيرات الاجتماعية الأخرى كالفقر، والاضطهاد الاجتماعي،
والمستوى التعليمي، ومكان الإقامة، والتفكك الأسري، حجم الأسرة، وجماعة الرفاق،
ووسائل الإعلام... إلخ. علماء السياسة درسوا الجريمة باعتبارها ظاهرة سياسية ترتبط
بمفهوم السلطة، والسيطرة، والقوة في الدولة. علماء القانون درسوا الجريمة بوصفها
سلوك يتجاوز القانون ويعتدي على حرمته. علماء الأخلاق درسوا الجريمة بوصفها ظاهرة
تتسبب في إيذاء الآخرين وإلحاق الضرر بهم، وتنطلق من دوافع عدوانية تناقض قيم التسامح.
يلاحظ
مما سبق أن العلوم الإنسانية التي درست الجريمة ركزت اهتمامها على عامل واحد في
تفسير الجريمة، وأغفلت العوامل الأخرى أو قللت من أهميتها. لذلك من الخطأ الاعتماد
على عامل واحد وإنكار العوامل الأخرى في تفسير الجريمة. لابد من توحيد الجهود
العلمية؛ للاستفادة من خبرات هذه العلوم ومعارفها ومناهجها في فهم وتوصيف وتفسير
الجريمة كون أنها ظاهرة مركبة ومعقدة.
نظرًا
لخطورة الجريمة وانعكاساتها السلبية على السِلم والأمن الاجتماعيين، وانتشارها في
المجتمع بشكل ملحوظ، جاءت فكرة هذا الكتاب؛ لتتناول الظاهرة بالدراسة والتحليل. قد
وقع الكتاب في ستة فصول.
الفصل الأول بعنوان: "الجريمة.. المفهوم
والدلالات"، تناولت فيه تعريف الجريمة من عدة زوايا: (قانونية، واجتماعية، ونفسية،
وتكاملية، وأخلاقية، ودينية)، ثم أشرت للمصطلحات ذات العلاقة بالجريمة: (علم
الإجرام، والقانون الجنائي، والانحراف، والحدث، والمجرم، والجناية، والجنحة، والمخالفة)،
وتقسيمات الجريمة، وعناصرها، وطرق دراستها، والعوامل المفسرة لها، وعقوبات
المجرمين.
الفصل الثاني بعنوان: "الاتجاهات النظرية المفسرة للجريمة"،
قُسِّمته إلى شقين: الأول تحدثت فيه عن تعريف النظرية، وأبعادها، وأشكالها، ومكوناتها،
والفرق بين النظرية في العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وإسهامات وخصائص وشروط
النظرية. أما الشق الثاني تحدثت فيه عن الاتجاهات النظرية المفسرة للجريمة ممثلة
في: (الذاتي، والموضوعي، والتكاملي). تحت كل اتجاه يندرج عدة نظريات.
الفصل الثالث
بعنوان: "دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية في تنمية السلوك الانحرافي
والإجرامي"، تحدثت فيه عن تعريف التنشئة الاجتماعية، وخصائصها، والعوامل
المؤثرة فيها، والأساليب الوالدية التي تنمّي سلوك الجريمة. ثم تحدثت عن أهم
مؤسسات التنشئة الاجتماعية: (الأسرة، والمدرسة، والحي السكني، وجماعة الرفاق، ووسائل
الإعلام) ودور كل واحدة في تنمية السلوك الانحرافي والإجرامي.
الفصل الرابع بعنوان:
"العولمة والجريمة". تناولت فيه: تعريف العولمة، ونشأتها، ومجالاتها، وإيجابياتها،
وموقف المثقفين منها، والفرق بين العولمة والجريمة والإرهاب، ووسائل الجريمة
المعولمة، وصور عولمة الجريمة، والعلاقة بين العولمة وجريمة المخدرات، والعولمة
وجريمة القتل.
الفصل الخامس بعنوان "الجهود الأممية في مواجهة الجريمة"،
تحدثت فيه أولًا عن الجهود الأممية في مواجهة الجريمة، ثم بينت الجهود العربية في
مواجهة الجريمة. أما
الفصل السادس: "معالجة الجريمة برؤية
إسلامية".
ختمت الكتاب بالحديث عن "طرق الوقاية من الجريمة".
تعليقات
إرسال تعليق