التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الطلاق.. علاج لمشكلة وليس مشكلة

بسام أبو عليان
محاضر بقسم الاجتماع ـ جامعة الأقصى
يعتقد كثير من الناس، بينهم بعض المختصين في علم الاجتماع، وعلم النفس أن الطلاق مشكلة نفسية اجتماعية. هذا اعتقاد خاطئ؛ لأن الطلاق هو حل لمشكلة، وليس مشكلة في ذاته. إن الله تعالى حين شرع الطلاق شرعه كعلاج لمشكلة أسرية، وحاشاه سبحانه أن يعالج مشكلة بمشكلة أخرى، هذا من جهة، من جهة أخرى جاء الطلاق في المرحلة الأخيرة في "روشتة" العلاج الشرعي، - إن جاز التعبير -، فهناك ثلاث مراحل متتابعة لعلاج المشكلات الزوجية، وفق الترتيب الآتي: (جهود الزوجان، جهود الأقارب، الطلاق). قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّـهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴿٣٤﴾ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿٣٥﴾}. [النساء:34-35] فإذا فشلت جهود الإصلاح في المرحلتين الأولى والثانية، وانعدمت سبل التوافق بين الزوجين يأتي دور الطلاق كحل أخير، لكنه ليس دفعة واحدة، إنما تدريجي ومرحلي، فأقر الله تعالى ثلاث طلقات: الأولى والثانية رجعيتان، أما الثالثة فهي بينونة كبرى، بحيث تحرم الزوجة على زوجها، ولا تحل له إلا بعد زواجها من آخر، وفق ضوابط شرعية محددة.
المشكلة ليست في الطلاق، إنما المشكلة أو سلسلة المشكلات فيما بعد الطلاق، هذه المشكلات سببها فهم الناس القاصر أو تصرفهم المشوه نحو الأحكام الشرعية، ومحاولة كل طرف من طرفي الطلاق معاقبة الآخر وإذلاله بما له من حقوق، أو بما يملكه من صلاحيات في موضوعات: (النفقة، ومؤخر الصداق، والأثاث، ورعاية الأبناء).
ليس بالضرورة كل مُطَلَقَين يكرهان بعضهما، بل العكس، قد يكونان يحبان بعضهما بدرجة كبيرة، لكن مقومات التوافق الأسري غائبة عنهما. فللطلاق أسباب كثيرة، منها: اختلاف المستوى التعليمي والثقافي بين الزوجين، تباين البيئة الاجتماعية، تنافر الأهداف والطباع والاتجاهات والأفكار، العقم، التدخلات القرابية، عدم إشباع حاجات الآخر النفسية أو الجنسية، تقديم المصلحة الشخصية على المصلحة الأسرية، الصراع على إدارة البيت، شح الزوج أو إسراف الزوجة أو العكس، تقليد ما تروجه المسلسلات من مشاهد رومانسية مبالغ فيها، التأثير السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي... إلخ. فالحب وحده لا يكفي لبناء أسرة سعيدة مستقرة.
يلجأ الأزواج إلى الطلاق إذا انعدمت أفق حل الخلافات بالتوافق فيما بينهما، وقد وصلت الحياة الزوجية إلى طريق مسدود.
يفترض بعد وقوع الطلاق أن تهدأ ثورة النفوس، وتطيب الخواطر، وتخمد نار المشكلات، إلا أن مشكلات ما بعد الطلاق تعمِّق الخلافات أكثر، وتزيدها تعقيدًا وسوءًا. بمعنى آخر: (لا باستمرار الزواج حلت المشكلات، ولا بالطلاق حلت!) أين يكمن الخلل؟ الخلل ليس في الطلاق، إنما في طريقة تفكير وتصرفات الناس.
للطلاق آداب يجهلها الكثيرين، يحسن التعرف عليها؛ حتى يكون الطلاق تدخلًا علاجيًا ناجحًا، وليس بوابة للدخول في مشكلات أخرى كالتي نراها ونسمع عنها في مجتمعنا، وفي أروقة المحاكم، من هذه الآداب: أن يكون رجعيًا، ويقع في طهر لم يسبقه جماع، ولا تخرج المرأة من بيتها إلا إذا أتمت مدة العدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1]، ويتلطف الرجل في تعليل الطلاق ولا يشهّر بطليقته ويسيء إليها، ولا يبخس حقوقها، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [النساء:20]، ويكون رجلاً في معاملتها فلا يفشي سرها للانتقام منها والإساءة إليها، قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].
رب قائل يقول: إن المجتمع يشهد ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الطلاق، مما يعني أنه يشكل مشكلة اجتماعية كبيرة. أقول: إن السبب يعود لأسباب تقليدية سبق ذكرها، لكنها باتت أسبابًا ثانوية، وأضيف لها سببين رئيسيين، هما: أولًا: تغير عادات وتقاليد وطقوس الزواج، التي أصبحت تهتم بالمظاهر المادية والسطحية والكمالية، والتصرفات الإسرافية، أكثر من اهتمامها بمعياري: (الدين والأخلاق). ثانيًا: كثير من الأزواج الجدد (من الجنسين) غير مهيئين نفسيًا واجتماعيًا للزواج وبناء أسر جديدة. هذا السبب يفترض أن يدفع أهل الاختصاص لمعالجته بضرورة إخضاع كل مقبل على الزواج لدورات تأهيلية "إجبارية"، ويمنح صاحبها شهادة، لا يوثق زواجه إلا بها، كالشهادة الصحية لفحص الثلاسيميا، فهذه الدورات من شأنها تثقيف الأزواج، وتخفف مع مرور السنوات من نسبة الطلاق، ولكم في ماليزيا أسوة حسنة. 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الممارسة المهنية في الخدمة الاجتماعية (1)| مهارة المقابلة

بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى مهـارة المقابلة تعريف المقابلة المهنية: "لقاء وجاهي مقصود يعقد بين الأخصائي الاجتماعي والعميل أو المشاركين الآخرين في عملية المساعدة بهدف جمع معلومات متعلقة بالمشكلة أو إعطاء معلومات بهدف التأثير على سلوك العميل وتغيير بيئته الاجتماعية، بهدف المساعدة في حل مشكلته أو التخفيف منها". تعد المقابلة أداة مهمة لجمع المعلومات، إذا أحسن الأخصائي الاجتماعي التصرف مع العملاء؛ لأن العملاء يميلون لتقديم معلومات شفهية أفضل من الكتابة. تأتي أهمية المقابلة مع الأميين والأطفال والمسنين أكثر من غيرهم. فإذا كان الأخصائي يتمتع بروح مرحة وقبول اجتماعي، ولباقة في الحديث، وذكاء في طرح الأسئلة فإنه يهيئ جواً ودياً مع العميل. بالتالي يحصل على معلومات مهمة عن المشكلة، وبإمكانه تشجيع العميل على الحديث من خلال الإيماءات وتعبيرات الوجه ولغة الجسد عموماً. عناصر المقابلة: 1)       العلاقة الاجتماعية: لا يمكن عقد المقابلة بدون وجود طرفيها معاً (الأخصائي الاجتماعي، والعميل). هذه العلاقة تحكمها العديد من المعايير المهنية. أدناها: (الترحيب بال

علم الاجتماع الحضري| الاتجاهات النظرية الكلاسيكية في علم الاجتماع الحضري

د. بسام أبو عليان محاضر بقسم علم الاجتماع ـ جامعة الأقصى الاتجاهات النظالكلاسيكية في علم الاجتماع الحضري: يمكن التمييز بين اتجاهين نظريين كلاسيكيين في علم الاجتماع الحضري درسا المدينة وظاهرة التحضر، هما: الاتجاه المحافظ، والاتجاه الراديكالي. أولًا| الاتجاه المحافظ: |      المبدأ الأساسي الذي يحكم المجتمع، هو: الثبات، والاستقرار، والنظام. |      من علماء الاتجاه المحافظ: ‌أ.         أوجست كونت: اهتم بقانون المراحل الثلاث (اللاهوتية، والميتافيزيقية، والوضعية)، وقارن بين الاستاتيكا والديناميكا الاجتماعية. ‌ب.    إميل دوركايم: اهتم بموضوعات، مثل: تقسيم العمل، والانتحار، والدين، والتضامن الآلي والتضامن العضوي. ‌ج.    ماكس فيبر: اهتم بأنماط السلطة الثلاث: (التقليدية، والكاريزمية، والقانونية)، ودرس موضوعات: البيروقراطية، والرأسمالية، والدين، والفعل الاجتماعي. وربط بين تطور المدينة والتغيرات التي طرأت الثقافة الغربية. ثانيًا| الاتجاه الراديكالي: |      ركز على الصراع الطبقي، وانتقال المجتمعات من مرحلة تاريخية إلى أخرى، وقد جعلها ماركس في خمس مراحل، هي: (المشاعية، والإقطاعية، والرأسمالية، والاش

طرق الخدمة الاجتماعية| خدمة الفرد

طريقة خدمة الفرد مراحل تطور خدمة الفرد: مرت خدمة الفرد في عدة مراحل، حتى وصلت إلى شكلها الحالي. 1.    المرحلة المشاعية (العشوائية): بدأت المرحلة العشوائية منذ فجر الإنسانية، واستمرت حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، تميزت بعدة خصائص، أبرزها: تقديم المساعدات بدافع فردي وتلقائي، وبشكل عشوائي وبسيط بعيدًا عن التعقيدات البيروقراطية، قدمت كهبة أو صدقة أو إحسان، إلا أنها قُدِّمَت بصور مهينة ومذلة، لم تحفظ كرامة الفرد. فلم يكن في هذه المرحلة مؤسسات حكومية تمارس الخدمة الاجتماعية، بل قدمت الخدمات من خلال: (بيوت المال، ودور العبادة، والجمعيات الدينية، وبيوت الإصلاح)، فلم يكن يوجد أخصائيين اجتماعيين يمارسون مهنة الخدمة الاجتماعية، إنما مورست من قبل متطوعين بواسطة: (الأثرياء، ورجال الدين، والسحرة، والمشعوذين، والمخاتير، وكبار القبائل). 2.    المرحلة التمهيدية (تنظيم الجهود): بدأت المرحلة التمهيدية مع صدور قانون الفقر الإنجليزي سنة (1601م)، واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر، حيث لوحظ زيادة في الجهود الإنسانية التي قدمت المساعدات للفقراء والمحتاجين، وذلك يعود لسببين: | الأ