الميدان
هو مخبر عالم الأنثربولوجيا الثقافية، حيث يذهب الأنثربولوجي ليقوم بعمله إلى موطن
الشعب الذي اختاره موضوعاً للدراسة، فيستمع إلى أحاديثهم ويزور بيوتهم، ويحضر
طقوسهم ويلاحظ سلوكهم العادي. ويسألهم عن تقاليدهم، ويتآلف مع طريقة حياتهم لتصبح
لديه فكرة شاملة عن ثقافتهم، أو يحلّل جانباً خاصاً من جوانبها. فعالم الأنثروبولوجيا،
في عمله هذا أثنوغرافي وجامع للمعلومات، يحلّلها ويربطها بمعلومات أخرى، عندما
يرجع من الميدان، وفي ذلك جانب علمي تطبيقي.
فالأنثروبولوجيا
في جانبها الميداني تشكّل فرعاً من فروع الأثنولوجيا.
لذلك، يلاحظ أنّ الدراسات الأنثروبولوجية
الميدانية، نشطت في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث لجأت الدول المستعمِرة، لاسيّما
(أمريكا وبريطانيا وفرنسا) إلى تشجيع هذه الدراسات على الشعوب التي تستعمرها، بغية
التوصّل إلى معارف دقيقة عن الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة عند هذه الشعوب،
والتي تنعكس في أحوالها الشخصيّة والمعيشية، بما في ذلك من طقوس دينية وعادات
وتقاليد، وأساليب تعاملية بين أفراد المجتمع.
هذا
كلّه سهّل على الدول المستعمِرة إدارة الحكم في مجتمعات الشعوب المستعمَرة،
واستغلال مواردها الاقتصادية ونهب خيراتها، بذريعة تنميتها وتطويرها.
وهكذا
برزت الأنثروبولوجيا الميدانية علماً يساعد في تحقيق أمرين أساسيين في المجتمعات
المدروسة:
1- حلّ المشكلات الناتجة عن الإدارة والحكم المحلّي، في
المجتمعات البدائية والمحلية .
2- معالجة مشكلات التغيير الحضاري السريع في هذه المجتمعات،
والمساعدة في التكيّف المناسب.
يدرس
عالم الأنثربولوجيا الشعوب التي يعمل في ربوعها، لأنّه يستطيع أن يحصل منها على
المعلومات التي تلقي الضوء على المشكلات الرئيسة في طبيعة الثقافة وعملها، وفي
سلوك الإنسان. بهذا النوع من المعلومات نتمكن من دراسة بعض المشكلات العامة، مثل:
أثر المناخ أو العرق أو غيرها من العوامل المؤثرّة في ثقافة الإنسان، وتنوعّ أشكالها
وسياق تاريخها.
هذا
يعني، ألاّ يغفل الباحث الأنثروبولوجي أحداث التاريخ التي تعتبر مصدراً مهمّاً
للتجارب. ونظراً لعدم إمكان التنبؤ في التاريخ، يصبح من الضروري الاحتفاظ بسجلّ
دقيق للأحداث التاريخية.
لذلك،
ينتهج الباحث الأنثروبولوجي منهجاً محدّداً في بحثه، ويستخدم مجموعة وسائل وأدوات
للحصول على بياناته. ويتبع خطوات قبل
القيام بالبحث وفي أثنائه، كما يواجه بعض الصعوبات، عليه أن يتعامل معها ببدائل
مناسبة. فقد كان اهتمام الباحث الأنثروبولوجي الأوّل منصبّاً على ملاحظة القوانين
الرئيسة العامة التي تحكم المجتمعات الإنسانية، أو الكشف عنها.
الأسس
الهامة في الدراسات الأنثروبولوجية تتمثّل في إقامة الباحث في مكان دراسته، يعايش
الجماعة كما هي في الواقع، ويحصل على كلّ ما يريده من علاقات وقيم وعادات وأنماط
حياة، تحدّد طبيعة هذا المجتمع وهويته الثقافية. لذلك، ثمّة مبادىء أساسية حددها
مالينوفسكي لا بدّ أن يستند إليها الأنثروبولوجي في بحثه الميداني، وهي:
1- أن يكون الباحث الميداني ملمّاً بالمعلومات الأنثروبولوجية،
ويكون لديه هدف علمي واضح لموضوع بحثه.
2- أن يعيش الباحث الميداني في المجتمع الذي يدرسه، ويقطع اتصاله
بالعالم الخارجي بصورة تامّة، ويحصر اهتمامه بالجماعة التي يدرسها.
3- أن يطبّق عدة أساليب في جمع المعلومات وتبويبها وتفسيرها.
هي أحد
الأساليب التي يستخدمها الباحث المقيم في دراسة الشعوب
البدائية. يقوم هذا الأسلوب على مراقبة أفراد الشعب الذي تجري عليه الدراسة أثناء
تأدية أعمالهم اليوميّة المعتادة. وحضور المناسبات العامة التي يقيمها هذا الشعب،
كالحفلات الدينية وحلقات الرقص، ومراسم دفن الموتى. ورصد التصرّفات، وتسجيل ما
يجدر تسجيله من حوارات وأغان وتراتيل، وما إلى ذلك من التعبيرات التي يبديها
الأفراد في هذه المناسبات.
هذا
يقتضي من الباحث الأنثروبولوجي أن يقيم فترة لا تقلّ عن (7-8) أشهر، في مجتمع الدراسة،
وتفهّم ما يدور فيه. فالباحث المحترف لا بدّ وأن يدمج نفسه في حياة الناس؛ لأنّ
البحث لا يتمّ إلاّ بالإقامة الطويلة لشهور عدة في المجتمع المحلّي. كما يجب أن
يحسن الباحث لغة الأهالي، حتى وإن كان السلوك الذي يشاهده غير لفظي.
وتحتاج
هذه الطريقة إلى أن يكون الباحث ملمّاً بأهداف بحثه وطبيعة مجتمع الدراسة. ويتمتّع
بقدر كبير من الاهتمام والوعي بأبعاد الظاهرة المراد دراستها، وكيفيّة رصدها بدقّة
وموضوعية.
أي يقوم
الباحث الأنثروبولوجي بأعمال تقوم بها الجماعة المدروسة، وذلك تقرّباً منها كسب ودّها،
والدخول إلى أدقّ التفاصيل في ممارسات أفراد هذه الجماعة، كأن يمارس بعض الطقوس
الدينية، أو بعض الأعمال التي تعدّ من النشاط اليومي للجماعة، لاسيّما الأعمال
اليدوية الفردية والجماعية.
المعلومات
التي تأتي من خلال الملاحظة بالمشاركة مهمّة بالنسبة للوسائل الأخرى، حيث أنّ
المعلومات الأوّلية الناتجة عن الملاحظة بالمشاركة تمدّ الباحث بملاحظات مهمة
لتصميم الاستمارات. كما أنّ الملاحظة بالمشاركة مهمّة لاختيار المعلومات الحقلية
اللازمة لتقييم الشواهد التي جمعت بالوسائل الأخرى.
من خلال
المعايشة الحيّة لمجتمع الدراسة، والمشاركة الفاعلة في أنشطته يكسب الباحث مهارة
في أداء هذه الأعمال، وقدرة على كتابة تجربته الشخصيّة وممارسته لها. وهذا يؤدّي
في النهاية إلى تصوير واقع الشعب المدروس، بتفصيلات تتّسم بالشمولية والدقّة.
من أقدم
الطرق البحثية، وما زالت مستخدمة على نطاق واسع في الدراسات الميدانية.
أخذت
هذا الاسم من عنوان نشرة صدرت عن المعهد الأنثروبولوجي الملكي البريطاني عام 1875،
ثمّ جرت عليها تنقيحات، إلى أن ظهرت الطبعة السادسة منها عام 1951.
قامت فكرة
إعداد استمارة شاملة تغطي جوانب الثقافة المادية وغير المادية، على ادّعاء
الباحثين بأنّ ثقافات الشعوب البدائية مهدّدة بالزوال، لذلك، يجب الحصول على أكبر
قدر ممكن من المعلومات طالما هذه الشعوب موجودة.
تؤدّي
هذه الطريقة إذا استعملها ملاحظ غير مؤهّل للبحث الأنثروبولوجي لجمع الكثير من
الوقائع، لكنّها تعطي القليل من المعلومات، سواء عن كيفيّة ارتباط هذه الوقائع ببعضها،
أو بالعنصر الإنساني في الحياة اليومية لدى شعب من الشعوب. لكنها تساعد
الأنثروبولوجي المختص، في التحقّق من النقاط التي يكون قد أهملها. وهذا ما دعا
ناشري الطبعة السادسة إلى وصفها "مذكرة يدوية للأنثروبولوجي الميداني".
يوزّع
الباحث الاستمارة على الأفراد المدروسين، ويتركهم يجيبوا عن الأسئلة بطريقتهم. غير
أنّ أسلوب التطبيق يختلف في دراسة الشعوب البدائية التي لا تعرف الكتابة، حيث يقوم
الباحث بطرح السؤال ويدوّن الجواب الذي يسمعه، وكذا الحال في الحوارات والمناقشات.
تقوم
هذه الطريقة على بناء فرضيات حول عناصر لظاهرة اجتماعية أو ثقافية، يسعى البحث لإثباتها
والتحقّق منها، حيث لا تظهر هذه العناصر إلاّ في حوادث أو حالات معيّنة.
تسعى
هذه الطريقة إلى فصل حالات في حياة الناس تبعاً لأشخاص وعلاقات وحوادث فرضية تتّفق
مع النماذج السائدة في ثقافة الجماعة، التي يستخدمها الباحث لإدارة المناقشات
وتوجيهها، مع أفراد الجماعة المدروسة. لذلك عندما تكون الحوادث مصطبغة بمعنى غيبي،
مثل الولادة، لا يريد الفرد أن يكشف عنها إذا كانت تعنيه أو تعني شخصاً آخر، يمكن
أن تجري المناقشة بحرية إذا لم يكن الشخص
المعني موجوداً.
المرجع| بتصرف عن: عيسى الشماس، مدخل إلى علم الإنسان، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004.
تعليقات
إرسال تعليق