أسعى في هذا المقال لرصد بعض الظواهر
السلبية التي تعاني منها اللغة العربية في مجتمعاتنا، إذ أصبحت تنوشها معاول الهدم
وتنتقص من وجودها المشخص في الواقع اللغوي المتداول بين الناطقين بها، ولعل أكثر ما
يحزن في هذا الجانب هو عدم اعتماد اللغة العربية الفصيحة لغة تدريس مقررة في
مدارسنا في فلسطين على سبيل المثال، إذ ألاحظ خلال زياراتي للمدارس ومشاهدة
المعلمين في تقديمهم للمادة العلمية كثيرًا ما يلجؤون إلى العامية، ولا يلتفتون إلى
الفصيحة، وهذه العدوى بالطبع شاملة لكل التخصصات بما فيها حصص اللغة العربية في تلك
المدارس.
وفيما يلي عرض لبعض الإشكاليات والمخاطر
التي تعاني منها اللغة العربية في واقعها المستخدم بين أبنائها، ليس على مستوى
المدارس فحسب، محاولا وضع تصور عملي فاعل للتقليل من حجم تلك الأخطار التي تهدد
لغتنا، التي هي عنوان وجودنا وحضارتنا ومنبع فكرنا وأداة
تفكيرنا:
1. انتشار اللغات
العامية:
تنتشر العامية انتشارا صارخـًا بين أبناء
اللغة العربية، وتتنوع هذه العاميات، لتهدد اللغة الفصيحة الأم، والتي تجعل اللغة
الفصيحة في مستوى ثان من التجسيد اللغوي، وتمنحها مكانة أقل في التعبير الحياتي بين
أبناء اللغة، وفيما يلي بعض المقترحات لمكافحة آفة العامية، وأرى أن يتم ذلك من
خلال:
• اهتمام المدارس والجامعات بالواقع
اللغوي، والتركيز على ممارسة اللغة في قاعات الدرس، وابتعاد المعلمين والمحاضرين عن
استخدام اللهجات العامية، وضرورة التركيز على ذلك عند اعتماد المعلمين والمحاضرين
الجدد، وتأهيل ومتابعة القائمين على رأس عملهم من أجل التخلص من
العامية.
• اعتماد الجامعات مساقات متعددة في
اللغة العربية، ليكون مطلبًا إجباريًّا لكل الدارسين، ويراعى فيها أن تكون خادمة
للمهارات الأساسية والحياتية للغة الفصيحة، ودعمها بأنشطة عملية، من مثل تقييم
الطلبة على الحديث الشفوي أو الكتابة الإبداعية بلغة رفيعة المستوى، تحقيقًا لهذه
المساقات، مع التركيز على أن ينجح الطالب في تلك المساقات إذا أتقن توظيف اللغة
الفصيحة محادثة وكتابة والتشديد في ذلك.
• تخصيص مسابقة
للعاملين في حقول التدريس الجامعي والمدرسي لتطوير آليات اعتماد اللغة الفصيحة كلغة
خطاب يومي.
• مكافحة القنوات الإعلامية التي
تعتمد العامية لغة في التخاطب وإعداد البرامج لتأهيل العاملين من أجل التخلص من هذه
الآفة المدمرة.
• إعلاء وزارات الثقافة في العالم
العربي من شأن اللغة الفصيحة، والعمل على نشر الإبداعات بعيدًا عن
العامية.
• التخطيط لعمل شعبوي ونخبوي على
مستوى الدولة الواحدة من أجل تعزيز مكانة العربية، وتعميق فهم المخاطر التي تحيق
باللغة العربية لدى عامة الناس، من أجل أن يتبنوا قرارات ذاتية لرفع سويتهم في
الحديث بلغة سليمة.
• تشجيع عادة
القراءة لدى الشعوب، وبخاصة الناشئة، ومراقبة برامج الأطفال التي تعتمد اللغة
العامية، ومنعها كلية.
• ربط الناشئة بالقرآن الكريم، كونه
هو المانعة الوحيدة العقدية التي تجعل الناس يقبلون على قراءة القران، وتمثل لغته
في الحديث، وضرب الأمثلة من واقع الكتّاب حتى من غير المسلمين الذين أقبلوا على
قراءة القرآن الكريم لتحسين أداء العربية في كتاباتهم وأحاديثهم.
2. السعي إلى تحويل
اللهجات المحلية من المستوى الشفوي إلى الكتابي:
ويرتبط بالخطر الأول خطر داهم، له شواهد
كثيرة في بعض البلدان العربية، ألا وهو تحويل اللهجات العامية من المستوى الشفوي
إلى المستوى الكتابي، وما يفرضه هذا التوجه من سيطرة العامية على اللغة ببعدها
النخبوي الخاص، وهو مقدمة طبيعية لتجسيد لغة ثانية تبتعد بالكلية عن اللغة الفصيحة،
إذ من المعلوم أن اعتماد الكتابة لأي لغة يحتم إقرار قواعد كتابية وإملائية وصرفية
ما، فلا يعقل أن يترك الأمر هكذا نهبا لكل كاتب يقول ويكتب دون أن تتم مواضعات لتلك
اللغة، وهنا تصبح اللهجات المحلية لغات معترف بها تحل محل الفصيحة، ما يعني أننا
سنؤسس لقوميات لغوية على غرار القومية العربية، وهكذا حتى تفتت الأمة أكثر مما هي
عليه من تفتت وتشرذم. وعليه لا بد من:
• اتخاذ قرارات بمنع نشر المؤلفات
التي تعالج مثل هذه الموضوعات، والرد على أصحاب هذه الدعوة من واقع سياسي ووجداني
يخص الوحدة الوجدانية للشعوب كافة.
• إبراز جماليات اللغة الفصيحة
ومقدرتها في التعبير عن حاجات العصر الحاضر، تفنيدًا لبعض الادعاءات التي تتهم
الفصيحة بالقصور.
• تكليف اتحاد المجامع العربية بوضع
مؤلفات تؤسس فيها لنحو وصرف مهذب، بعيدًا عن الاختلافات النحوية والصرفية المعقدة،
حتى لا يُعطى أصحاب الدعوات الهدامة فرصة للطعن على اللغة، وبأن نحوها معقد وخلافي
وعقيم.
• ضرب الأمثلة الحية والواقعية على أن
تقعيد العامية يفقد العامية أبسط أسسها وهي التخلص من القواعد ذاتها، وأنها عملية
معقدة أصلا، وإن تمت فإنها ستخلق في نهاية الأمر لغة عامية واحدة تكون بمثابة لغة
بديلة عن الفصيحة، فواقع العامية أنها عاميات، تختلف فيما بينها في القطر الواحد،
فما ظنكم في العاميات العربية، فإنها تكاد لا تحصى عددًا، وعملية تقعيدها أصلا
متعذرة.
3. آثار العولمة في
اللغة العربية:
لعل أهم أثر من آثار العولمة هو ذلك
المتفق عليه بين أغلب المفكرين والمنظرين السياسيين والتربويين، بأن العولمة تفرض
سياقـًا ثقافيـًّا واحدًا، وتحارب التعددية الثقافية، ومنها اللغوية بطبيعة الحال،
ومحاربة العولمة للتعدد الثقافي- اللغوي هو حتمي، إذ إن القوة السياسية والاقتصادية
تفرض بالمؤكد واقعـًا ثقافيـًّا ولغويـًّا تابعـًا ومجسدً، شئنا أم أبينا، فنحن
عندما نكون الأضعف سنكون حتمـًا تابعين، مستهلكين غير منتجين، وهذا يفترض بالضرورة
التعامل مع المنجزات الثقافية والسياسية والتكنولوجيا بما يريده لها أصحابها، وإن
حافظت العولمة على بعض التنوع الثقافي اللغوي فهو لا يتعدى أن يكون هامشيـًّا
ومحصورًا لا ينافس اللغة والمنتج والثقافة التي يسوقها أصحاب العولمة ومصدروها،
وعلى العالم العربي أن يستشعر هذا الخطر، ويكون عليه أقل الواجب أن يقوم
بـ:
• مراقبة السلع والبضائع كافة
والمنتجات الصناعية والزراعية، وبخاصة المصنعة في العالم العربي وأن تكون نشراتها
ومسمياتها عربية، وتجنب كتابة أسماء تلك المنتجات الأجنبية بالحرف العربي بكيفية
نطقها في اللغة الأجنبية.
• مكافحة مظاهر عبرنة أو نجلزة أو
فرنسة اليافطات المكتوبة كواجهات للمحلات التجارية والمصانع والشركات، وعدم منح
التراخيص اللازمة إلا بعد تعريبها بالكامل.
• اعتماد اللغة العربية في المراسلات
الخارجية والداخلية، وإلزام السفراء والمتحدثين باسم الدول العربية باللغة الفصيحة
في اللقاءات الدولية والمؤتمرات الصحفية أو التوقيع على المعاهدات والاتفاقيات
التجارية.
• إشراك المثقفين والمفكرين كافة
والعلماء في شتى العلوم بوضع ميثاق شرف يتبنى الدفاع عن اللغة العربية في المجالات
كافة، والاهتمام بالنشر الإلكتروني وتعريب المواقع الإلكترونية ولغة البرمجة
الحاسوبية، ليكون بالإمكان التعامل مع المواقع الإلكترونية باللغة الفصيحة بدءا
بكتابة العنوان الإلكتروني وانتهاء بمحركات البحث الإلكترونية، وتخصيص جائزة مجزية
لتوفير محرك بحث عربي يعتمد اللغة العربية لغة أساسية على غرار المحركات
الأجنبية.
• مراقبة المواقع والمنتديات
الإلكترونية، وعمل التوعية الضرورية لاستخدام اللغة السليمة، وليكن هناك نوع من
الرقابة الذاتية، لرفض استخدام التعليق على الموضوعات إلا باللغة الفصيحة، وتجنب
الحديث بالعامية أو اللغات الأجنبية.
• ربط الناشئة بمصادر معرفية غير
تقليدية، تتوافر فيها التقنية الجيدة والإخراج الفني عالي المستوى، ليكون جاذبـًا
وبديلاً عن القنوات الأجنبية، وبخاصة فيما يتصل بعالم الترفيه والألعاب الإلكترونية
والأفلام التعليمية الهادفة، والتي تحمل مضمونـًا ولغة عربية حتى نصنع في الناشئة
إحساسـًا متناسقـًا حول حقيقة كونه ينتمي إلى حضارة وارفة لها جذورها التراثية
وامتداداتها المعاصرة كذلك.
• تقديم الكتب التراثية بلغة مبسطة
وبالاعتماد على التقنيات الحديثة.
• الاهتمام بالأطفال اهتمام من يحرص
على المستقبل، فتتكون خطة عمل طموح وجريئة، تستهدفهم بمجموعة أنشطة، معدة جيدًا،
وليكن ذلك مثلا خلال العطل الصيفية من خلال المخيمات الصيفية، وليكن للغة العربية
مكان في تلك الأنشطة، تهدف رفع مكانتها في نفس الطفل وتجعله مقبلاً عليها وبكل
أريحية، وتوظيف حب الأطفال للموسيقى والغناء والنشيد من أجل تحقيق هذا
الغرض.
4. استبعاد اللغة العربية
في العملية التعليمية في التدريس الجامعي والتدريس في المدارس
الخاصة:
وأخيرا أقف عند مشكلة أخرى يعاني منها
التعليم في البلاد العربية، وبخاصة المدارس الخاصة غير الحكومية، والجامعات، وأحببت
أن أفرد لهذا الخطر بندًا خاصًا لما له من عميق الأثر والخطر، وقد تحدثت سابقـًا عن
بعض المشكلات التي تهدد التعليم بالعامية، وذلك في البند الأول، والآن أحاول أن
أوضح خطر استخدام اللغات الأجنبية على التعليم، فقد شكلت اللغات الأخرى التي
يتعلمها الطفل وبخاصة في المراحل العمرية الأولى من الصف الأول الأساسي وحتى الصف
الرابع الأساسي خطرًا حقيقيـًّا على تعلم اللغة الأم وإتقانها، والطالب بهذا التلقي
لغة جديدة، وتداخل نظامين لغويين في عقله وتفكيره، وما يفرضه ذلك من اختلاف في
التعامل الكتابي لكل لغة وبخاصة فيما يتصل باللغة العربية واللغة الإنجليزية على
سبيل المثال، سيجعل الطالب متأثرًا سلبيـًّا في إتقان اللغتين معـًا، ما يولد جيلاً
ضعيفـًا لغويـًّا في المهارات الأربع التي تطمح كل لغة أن توجدها عند المتعاملين
فيها (القراءة والكتابة والمحادثة والاستماع)، ويزداد هذا الخطر كلما تقدم الطالب
في مراحله التعليمية، لتحل اللغات الأجنبية محل اللغة العربية في التعليم الجامعي،
فتنبت الصلة بين المتعلم ولغته القومية، ويصبح تابعـًا ثقافيـًّا وحضاريـًّا لغيره،
وعليه لا بد من عمل:
• منع وزارات التربية والتعليم تعلم
لغة ثانية في مدارسها إلا بعد المرحلة التمكينية للمهارات اللغوية للغة الأم، وهذا
عادة كما يقرر بعض التربويين يكون ممكنـًا ومسموحـًا به من الصف الخامس الأساسي وما
بعده.
• تشديد وزارات التربية والتعليم على
المدارس الخاصة بأن يكون للغة العربية وضعها المحترم، وأن تكون لتلك الوزارات
صلاحية الإشراف المباشر على ذلك، مع توفير كادر تعليمي قادر على فرض واقع لغوي عربي
في تلك المدارس، محصنًا من الانجراف وراء سياسة تلك المدارس، ووضع قيود على تلك
المدارس إن لم تستجب لتلك الإجراءات.
• تعريب التعليم الجامعي في التخصصات
كافة، والاستفادة من التجارب الناجحة، ووضع خطة على مستوى العالم العربي لاتخاذ
إجراءات عملية وبخطة واضحة الإطار الزمني للانتقال من التدريس الجامعي باللغات
الأجنبية إلى اللغة العربية.
• إحياء حركة تعريب وترجمة شاملة لكل
العلوم والمعارف والمؤلفات الجديدة المفيدة لتكون عونـًا وبديلاً عن المراجع
الأجنبية، ورصد الإمكانات المادية والبشرية لذلك، من خلال خطة واضحة المعالم تسير
حسب أهداف واضحة بعيدًا عن الارتجالية والتخبط، إذ لا يكفي ما هو قائم الآن لسدِّ
هذه الثغرة، على أهمية ما تقوم به تلك المراكز والمؤسسات.
• تفعيل دور مكتب تنسيق التعريب، ومنع
إصدار أي مؤلف إذا لم يكن خاضعـًا لمراجعة متخصصين تابعين للمكتب، لنتجنب فوضى
المصطلحات، وسد باب الذريعة للتفلت من الفصيحة والارتماء في أحضان اللغات
الأجنبية.
• توفر الإرادة
السياسية الفاعلة في القرارات السياسية والخطط الحكومية، من أجل تحويل التمنيات
والطموحات إلى وقائع ملموسة، والاستعداد لطول النفس والصبر في ذلك، وأن يصاحب ذلك
حملات توعية ومؤازرة شعبية تدعم وتناصر وتدافع عن تلك
السياسات.
http://www.oudnad.net/spip.php?article192
نقلا عن: موقع مجلة جسور تربوية،
http://www.abegs.org/Aportal/Article/showDetails?id=6306
تعليقات
إرسال تعليق